قصة من الإبادة لابد للشمس أن تشرق بعد كل ليلة مظلمة II

في عالم غارق في ضجيج المستقبل المجهول وقابع في مستنقع الجاهلية  نهاد كانت تصغي إلى السكينة التي كانت تحاول زرعها في قلبها الرقيق الذي لم يقوى أكثر بعد على تذوق المرارة، صنعت بصيص أمل لذاتها تترقب به المدى البعيد منتظرةً شروق الشمس مرة أخرى.

حجارة جبال شنكال وسفوحها وأضرحتها شاهدة على الآلاف من قصص الإيزيديين وبالأخص قصص النساء الإيزيديات اللواتي رمين أنفسهن من الجبال لصون كرامتهن من يد الأعداء.

تاريخ ليس ببعيد شهدته هذه الأرض مجدداً في زمن ظن أنه زمن العدالة والديمقراطية لكنه قلب إلى زمن الرجعية والهمجية والتخلف أكثر من سابقه، تاريخ مر عليه 8 سنوات لا أكثر بانتظار كتابته بين الصفحات السوداء ضد الإنسانية.

شنكال بتاريخ 3 من آب لعام 2014 تعرضت لإبادة جماعية كبيرة بسبب خيانة هزت عمق هذه الجبال لكنها لم تستطع ان تقلل من شموخه، في هذا التاريخ وفي هذه الإبادة كان الموت أرحم شيء قد حدث، المئات من الرجال وكبار السن قتلوا بشكل جماعي والآلاف من النساء والاطفال تم خطفهم وأخذهم لبلاد ومدن أخرى لبيعهن في الأسواق تحت مسمى شريعة الإسلام، نهاد مراد إحدى الفتيات الإيزيديات اللواتي ذقن الحياة علقماً لا يتحمله قلب إنسان.

نهاد كانت صغيرة جداً على استيعاب الواقع الذي يحيط بها، كانت تترنح يميناً ويساراً تتفقد الكل مشددة على ملامح من حولها لعلها تقرأ شيئاً ما من أعينهم، لعلها تدرك ما الذي يحدث، كل ما كانت تعلمه أن مصيراً مجهولاً ينتظرها.

نظرت آخر مرة إلى الجبال التي كانت تعلم أنها سندها الوحيد وملاذها ومسكنها وأكثر من يشعر بها، مقلتا عيناها امتلأتا بالدموع التي لم تستطع حبسهما وتحسرت تلك الجبال التي تركتها خلفها، تمنت لو بقيت هناك لبكون مستقبلها مختلفاً جداً.

آخر ملاذ لي أمي التي أبعدوني عنها،

ما كانت نهاد تخاف منه هو الوقوع بيد داعش لكنها عاشت ما كانت تخافه، تطرقت إلى لحظة أفتراقها عن أمها وبينت متحسرةً أنها لم تتعلم الجسارة بشكل أكثر من والدتها: “لم نكن فقط نحن عندما اعتقلونا كان هنالك الآلاف من العائلات المعتقلة،كان العدد كبيراً جداً لدرجة أنني تفاجئت به فلم أكن أعلم أن عدد الإيزيدية في شنكال من الممكن ان يكونوا بهذه الكثرة، فلم أكن أعرف سوى قريتي الصغيرة وكنت أتخيل أن شنكال غالبيتها هكذا، لقد رأيت جيراننا وبيت عمي ايضاً بين المعتقلين،  في نقطة التفتيش تلك لم يتجاوز عدد الداعشيين 20 شخص فيما أعتقلو الآلاف من الأشخاص.

كيف يمكن حدوث هذا!! لـ 20 رجلاً أان يعتقلوا آلاف الأشخاص؟! قلت سابقاً أن داعش قد قتل الناس روحاً قبل الجسد لذلك لم يكن هنالك عصيان مباشر، رغم وجود بعض الأسلحة الخفيفة للرجال الإيزيديين الذين كانوا معنا إلا أن الجرأة على إطلاق النار بوجههم قد جمدت، قد وقعت الحادثة وألقوا القبض علينا لازلت مصدومة بما حدث لم أستوعب الأمر جيداً.

فصلوا النساء الكبيرات في السن عنا نحن الشابات والأطفال وأبعدوا أمي عني وعن أختي الصغيرة، حينها أحسست بأني اصبحت جسداً بلا روح. تمسكت بقوة بيد أختي خوفا عليها من الذي سيحدث لنا، تمنيت الموت على ألا أفارق امي، كانت تحسسني ولو مجرد إحساس بالأمان.

كنت أقول إنه هناك من يحميني، لكن أخذوها بعيداً هي والنساء الأخريات، الأمهات كانن أكثر جرأة منا نحن الأطفال والشابات فكانت جسارتهن كبيرة، بعدة مدة قصيرة  بحثت في عيوني عن عائلتي لم أرى أخواتي، لم أرى أمي ولا والدي نظرت إلى كل مكان باحثة حتى عن خيال لهم هلت دموعي منها فرحآ ومنها حزناً،  لم أرى بعيني ما حدث لكن سمعت أن أمي وعماتي والعديد من النساء الأخريات استطعن الهرب بشكل ما، كان يجب علينا أيضا أن نتعلم منهن الجسارة ولو قليلا.”

تُرِكتُ وحيدةً بلا سند مع أختي الصغيرة لمصير مجهول ونقلونا إلى مركز مدينة شنكال ووضعونا في مدرسة كانت مليئة بالإيزيديين لدرجة عدم وجود مكان للجلوس لا في الداخل ولا حتى في الباحة أيضاً.

حينها فصلوا النساء عن الرجال لا أدري أين أخذوا الرجال ولكن نحن النساء كنا في المدرسة، وتم احتجازنا ليومين داخل تلك المدرسة، كانا يومين أشبه بنهاية العالم بالنسبة لي، تسألت كثيراً ألا يوجد أحدا في هذه الأرض الكبيرة يسمع صرخاتنا. هذه الأرض التي يتصارع عليها الجميع هل مات أهلها في يوم إبادتنا؟! نقلونا مرة أخرة إلى تلعفر من ثم إلى سجن بادوش، في بادوش تم قصف مواقع داعش لذا اضطرو إلى إعادتنا مرة أخرى إلى تلعفر، وهناك كان عددنا نحن النساء بالآلاف قاموا بتفرقتنا وأخذوا النساء غير المتزوجات وتركوا البقية في قبضتهم في تلعفر.

كنا ضمن اللواتي نقلن إلى وجهة غير معروفة، كانوا يجروننا يميناً ويساراً لا نعلم شيئاً ثم علمنا أننا في مدينة الموصل، أسرونا في منزل كبير جداً يتألف من 4 طوابق كان يعج بالفتيات الإيزيديات، كان عدداً هائلاً أرعبني جداً ومن ناحية أخرى جعلني أشعر بالراحة بتواجد اللواتي مثلي بجانبي. في كل هذه المدة لم تفترق يدي عن يد أختي كانت محكمة جداً.

بعد يومين من بقائنا محتجزات في الموصل أخذونا إلى بعاج من ثم تل بنات، كانوا يغيرون وجهتهم كل يوم، لم أكن أهتم ما يحدث لأن كل تركيزي كان على أختي فلم يبقى لي سواها لعلنا نؤنس بعضنا في هذا الهلاك المظلم. كنت أخشى جداً أن يفرقوننا عن بعضاً كنت ادعي في جوفي ليلاً نهاراً ألا نفترق عن بعض لكن ما الحل ومعصم الأمور بإيدي الظالمين.

لقد أخذوني بعيداً عن أختي افترقنا نحن  الاثنتان أذكر حينها أنني صرخت لدرجة انه أُغميَ علي، لا يمكن حدوث هذا فلا أحد لي سوى أختي هي مسكني وأمي وأبي وجميع أخوتي، رجوتهم ألا يأخذوني بعيدة عنهم فاختي كانت 12 عاماً لا زالت صغيرة  كانت خائفةً جدا ففي غياب والدتي أنا كنت سندها الوحيد كل ما رجوتهم أكثر ضربوني أكثر، لا ادري ما حدث لأختي أما أنا فأخذونني  إلى حمص والتي كانوا يسمونها حينها بولاية البادية.”

“الموت كان أرحم بكثير“

كانت نهاد تتكلم بطريقة سريعة من دون توقف فجأة توقفت لوهلة وأخذت نفساً عميقاً أغمضت عيناها المدورتين لمدة قصيرة وبغصة عميقة قالت: “أماكن ومدن وقرى لم أسمع بها نهائياً ولم يكن لي علم بوجودها، تمنيت ألا أعرفها ايضاً لأن هذه الأماكن ستبقى في ذهني ملطخة بدماء قومي وأهلي، ستكون دائماً مقبرتي ومقبرة الإنسانية وستسجل هكذا في التاريخ  أيضاً.

في حمص تم بيعي إلى داعشي يبلغ من العمر 30 سنة مقطوع اليد كان يعرف باسم أمير الأسرى كان جزائري الجنسية فيما أنا لم أبلغ الـ14 سنة بعد.

عمري حينها لم يكن كافي لمعرفة ما تعنيه كلمة سبية أو شراء الفتيات وبيعهن، اسوأ ما كان يخطر ببالي هو الموت لا أكثر لم أكن أدري أنه هناك ماهو أبشع من الموت ينتظرني.

لا أعتقد أنه في هذه الدنيا قد تمنى وتحسر أحداً على الموت بقدرنا نحن النساء الإيزيديات لا أعتقد ابداً، كنا نتمناه ونرجوه من الله، كان الموت جميلا حينها، لقد أسرني لمدة 3 سنوات.

3 سنوات من عمري أخذت معها 14 سنة قد عشتها سابقاً هذه الـ 3 سنوات دمرت ما كان في جوهري كفتاة إيزيدية، لقد اغتصبني رجل لا أعرف ملامحه حتى، منعته مراراً وتكراراً قاومت رغم جسدي النحيل المتعب تعالت صرخاتي في ذلك البيت الذي كان سجناً لي.

جدران ذلك البيت قد انحنت خجلاً مما حدث لي لكن ذلك الرجل الكريه ذو الملامح المخيفة كان خالي من الإحساس كان كالوحوش، قاومت حتى هزلت روحي وجسدي لم يتبقى لي طاقة أكثر، تم ضربي وجري حتى أُغميَ علي، عندما صحوت رأيت نفسي ملطخة بالدماء أغمضت عيني مرة أخرى داعية الموت.

أحكمت إغلاقهما جيداً لدرجة أنني آلمتهما لم استطع فتح عيناي كنت أردد هيا موتي، ما رأيته كان كابوساً وليس حقيقة موتي.

بعد برهة سمعت صوت ذلك الرجل الذي كان عزرائيل بالنسبة لي حينها تقطعت روحي ألف مرة وعلمت أن ما رأته عيناي ليس كابوساً بل حقيقةً مرةً. حاولت قتل نفسي لكن بصيص أمل الخلاص كان يمنعني من فعلها.

لم أقطع أملي بالحرية، كنت متأكدة وقانعة نفسي بأن الحرية تنتظرني، لذا تحملت ما لم تتحمله الإنسانية من إهانة واستصغار وقتل النفس.

محاولتي الأولى في الهرب فشلت

روح المقاومة وعدم الإستسلام في جوهر المرأة الإيزيدية كان يورث من جيل إلى آخر.

نهاد أيضاً رغم صغر سنها إلا أنها تعلمت المقاومة وراثةً لهذا لم تستلم هذا الأمر شعرنا به عندما كانت تتحدث عن محاولتها الأولى في الفرار من داعش فكانت تتحدث بحماس كبير وكأنها تعيش تلك اللحظة مرة أخرى: “سمعت كثيراً عن النساء الإيزيديات اللواتي قتلن أنفسهن أو حاولن الهرب من داعش منهن نجحت ومنهن من فشلت. تذكرت والدتي وجسارتها في الهرب عندما كنا في شنكال وقررت أن أجعل من جسارة أمي دافعاً لي للخلاص من الجحيم، لم أكن أعرف الأماكن جيداً في مدينة الرقة فالطرق جديدة بالنسبة لي والمخارج والمداخل في المدينة كثيرة أيضاً.

فكرت اذا خرجت أين سأتوجه طريق الخلاص أين سيكون؟ لكن في ليلة تركت كل هذه التساؤلات والترددات جانباً وخرجت من المنزل هرباً لم أعلم إلى أين يجب أن أتوجه فقط كنت أمضي في طريقٍ مظلم بلا نهاية، كل ما كان يدور في رأسي أنني اذ أكملت طريقي سأنجح، لهذا لم أنتبه جيداً إلى ما هو حولي، كما تفاجئت أول مرة بحاجز داعش في شنكال عندما ظهر أمامنا عشت ذات الشيء مرة اخرى لكن في الرقة.

خرجوا أمامي وامسكوا بي كانوا يعلمون أنني إيزيدية سألوني من هو الذي كنت عنده قلت اسمه واصطحبوني مجدداً إليه خشيت جداً مما سيفعلوه بي كنت أعلم أنني سأعاقب على فعلتي لكن الحظ حالفني هذه المرة ولم يفعلوا بي شيئاً.”

شنكال. روج نيوز

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى