قصة من الإبادة لابد للشمس أن تشرق بعد كل ليلة مظلمة I

“لم أعلم أنه هنالك ما هو أبشعُ من الموتِ ينتظرني” جملةً قالتها نهاد مراد الإيزيدية التي تحررت من قبضة داعش قبل 3 سنوات أثناء سرد قصتها التي تتألم لها القلوب، نهاد أنارت لذاتها شعلة الأمل بالحرية على مدار 5 سنوات في جحيم لا يطاق، حافظت بداخلها على ديانتها التي ولدت معها وكبرت عليها ولم تكسر عهد النساء الإيزيديات لذاتهن على مر آلاف السنين.

هل من أحد هنا؟ هل تسمعون صرخات حناجرنا وأجسادنا المغتصبة؟ يا أيتها الأرض والسماء ارحمينا واحتوينا داخلك فقد تُرِكنا لِما هو أسوأ من الموت بيد مخلوقاتك التي تشبه البشر.

هذه والآهات تكررت في قلوب مئات النساء الإيزيديات اللواتي عشن ما تتألم القلوب له من فظاعته على يد مرتزقة داعش الإرهابي، ففي الثالث من آب عام 2014 سُحقت الإنسانية على أرضٍ طاهرةٍ ودمرت كل معاني الحياة فلا ناجد يُنجد ولا مخلص يهرع تركت وباعت وسبيت أرض قاومت بوجه مئات الإبادات على مر التاريخ… نعم إننا نتحدث عن شنكال.

شنكال تلك البقعة الجغرافية التي تشتهر بجبالها الوعرة والمقاومة التي ظلت شامخةً كأهلها على طول دهر بعيد المدى، فما حدث في الثالث من آب لم يكن المرة الأولى لكن لم يحدث قبلٌ إبادة كهذه على مرأى ومسمع العالم أجمع بدون حراك، فهذه الإبادة تركت صورةً مرعبة خلفها وسببت جرح لم يلتئم بعد، هذا الجرح في كل ذكرةً سنوية ينتظر البلسم المُداوي.

إذا قلبنا صفحات تاريخ المجتمع الإيزيدي صفحة تلوى الأخرى فسنشاهد أمامنا ملاحم عديدة للنساء والرجال الإيزيديين اللذين لم يقبلوا الخضوع لأي قوة أخرى وحافظوا على ديانتهم، ففي سفوح جبال شنكال لا زالت الكهوف شاهدةً على مقاوماتٍ تاريخيةٍ بوجه العديد من القوات البربرية، وبسبب النهب والسلب والاغتصاب التي تعرضت لها هذه الأرض بقي تاريخ الإيزيديين يتداول على ألسنة ومسامع كبارهم فقط، لهذا دائما ما تسمع جملة ” كبارنا قالوا لنا” فلا كتاب ولا تاريخ مكتوب للاستناد إليه كل ما يسمع هي قصص تم تداولها من جيل لآخر وإحدى النصائح التي تذكرُ بكثرة بين الإيزيديين هي “احتموا بالجبال”.

 

ما عاشته نهاد مراد وعائلتها في الـ 3 من آب عام 2014 خلال الإبادة التي اخترقت صرخاتها طبقات السماء لكنها لم تصل إلى مسامع السلطات التي تدعي الإنسانية وحماية حقوق الإنسان، كانت قصة معاشة بكثرة في هذه البقعة الجغرافية، أي باب تطرقه لن تخرج منه بدون غصة في القلب لموت الإنسانية في هذا الزمن.

كل بيت في شنكال هو صاحب قصةً ومعاناةً تعصر القلوب، قلة قليلة وجود من لم يذق الظلم مراً في شنكال، نهاد التي كانت تبلغ من العمر 14 سنة كانت صغيرة جداً على إدراك الواقع بكل حقيقته البشعة، لقد نضجت بسرعة كبيرة في وقت لم تتخيله ويا ليتها لم تنضج.

“كان أبعد مدى لتفكيري هو دراستي“

نهاد مراد التي تبلغ من العمر الآن 21 عاماً قامت برواية قصتها قبل زمناً، أملاً منها أن يأتي يوماً ما وتصبح قصتها شهادة لمحاكمة الأطراف التي كانت سببا في الإبادة بحقهن.

نهاد في بداية سردها لما حدث تكلمت عن طفولتها قبل التاريخ الذي غير حياتها وترك جرح لم يشفى بعد، الفتاة الإيزيدية ذات البشرة السمراء والحاجبين السوداوين بهذه الكلمات بدأت رواية مأساتها التي يصعب على المرء سماعها بدون ذرف الدموع: “اسمي نهاد مراد عيدو، أنا من عائلة مكونة من 4 فتيات و4 شبان من قرية دوهلا، لا أتذكر بالضبط ما هو اسم عشيرتي ولكن على ما أعتقد أننا من الداسنيين.

حياتي في السابق كانت كلها تتمحور حول الدراسة لا أكثر، لقد درست حتى الثالث الإعدادي، كنا في قريتنا ننعم بالراحة ولم نكن نشكو من شيء أو بالأحرى أنا لم أكن التفت إلى أي شيء آخر سوى دراستي، فقد كنت أحبها جداً، والدي كان له راتب شهري من الدولة منذ أيام صدام حسين كنا نعيش عليه، أبي كان كبيرا في السن لذلك لم يكن يعمل بشكل مستمر، كانت كل أملاك والدي سيارة لا أكثر.

في شنكال لدينا تقليد يدعى “بالكريف” الصلة التي تربط الإيزيديين بالعرب هي الكريفتية، لا أدري متى ظهرت هذه التقاليد لكن كان والدي يقول إنها لتوطيد العلاقة بيننا الإيزيديين والعرب، لهذا كانت العلاقات في شنكال ما بين العرب والإيزيدية جيدة.”

“كنا غافلين عن الحقيقة“

عندما كانت نهاد تتحدث شعرنا بخيبة الأمل خاصة عندما تحدثت عن بداية الإبادة وهروب حزب الديمقراطي الكردستاني وتركهم لمصير أسود، عكفت حاجبيها العريضين وأخذت نفساً مليء بالغضب وقالت: “لم أسمع باسم داعش أبدا رغم أنه في بدايات ظهورهم أرعبوا الناس بانتشار اسمهم فقط، أتذكر عندما دخل داعش إلى الموصل عندها سمعت بهذا الاسم الذي أصبح لاحقاً قدراً أسوداً في حياتي، سماع اسمهم كان مرعباً جداً فقد زرعوا الخوف قبل أي شيء لهذا عندما كانوا يهجمون على المنطقة لم يعد هنالك حاجة لقتل أحد لأنهم قد قتلوا روح المرء بالخوف من قبل، فما تبقى أمامهم مجرد جسد يترنح بأوامرهم.

عندما أتذكر موقفنا قبل دخول داعش إلى شنكال أضحك بشكل عفوي على صفاء قلوبنا نحن الإيزيديين، فنحن مجتمع نرجو الخير ل 72 قوم في العالم قبل قومنا. لهذا لقد أرحنا قلوبنا بوجود الجيش العراقي وبيشمركة حزب الديمقراطي الكردستاني، قلنا من المستحيل أن يهجموا على مناطقتا، حقاً كم كنا غافلين عما يحدث حولنا، فلم نتحدث ضمن العائلة عن إمكانية دخول داعش إلى مناطقنا لذا لم نكن على استعداد عندما شن داعش هجماته البربرية.”

جبالنا كانت الملجأ الوحيد

نهاد وعائلتها كبقية العائلات الإيزيدية الأخرى الذين احتموا بدايةً بجبالهم، وعن اليوم الأول للإبادة هذا ما روته نهاد: “كنا في قريتنا في دوهلا جالسين، اتصلوا بنا أقرباؤنا وقالوا داعش قد دخل مدينة شنكال، كنت صغيرة حينها، لم أكن أعرف جيداً من هم داعش ولكن كانوا قد نشروا الخوف سابقاً، وهذا الخوف قد اغتال قلبي أيضاً.

كنت أحاول ألا أظهر هذا الخوف الذي سبب ارتعاشاً في جسدي لأن عائلتي لم تجعلنا نحن الأطفال نشعر بالخوف، بعد انتهاء الاتصال قال أبي بهدوء أحزموا أشياءكم سنتجه إلى الجبال، لا أدري ولكن عندما قال أبي هذه الجملة شعرت بأننا سنستطيع النجاة بأرواحنا، على ما أعتقد هذا الشعور له صلة وصل بجذوري الإيزيدية.

في يوم الإبادة ذاتها أي في الـ 3 من شهر آب توجهتُ مع عائلتي إلى الجبال، مكثنا هناك يوما واحدا، كان التحمل صعب في الجبال فهي كانت وعرا ونحن لم نكن قد تعودنا عليها، لذا واجهنا صعوبات جمة، لم يكن هنالك لا ماء ولا طعام، كان الحر شديد الارتفاع في النهار والمساء ترتجف عظامنا من البرد إلى جانب الخوف.

كان الكل يتسآئل في الجبال ماذا سيحدث؟ هل سيستطيع داعش الوصول إلى جبالنا؟ اذ وصلوا ماذا سنفعل؟ والعديد من الأسئلة التي تتلفظ بها شفاههم من الحيرة.”

“عشت ما كنت أخشاه“

رغم أن نهاد لم تكن تعلم جيداً من هم داعش وما هي أفعالهم لكن تاريخ مجتمعها كان كافياً لمعرفتها أن الخطر عظيم، لهذا يمكن القول إن الشعور بوجود خطر كبير من دون الحاجة لمعرفة شيء هو إحساس عائد لتاريخ طويل: “انتشرت أخبار بأنه على الحدود مع روج آفا هنالك حزب العمال الكردستاني ينقذ الملتجئين الإيزيديين ومن يرغب بالخلاص فليتوجه إلى الحدود.

قسم كبير من الإيزيديين قد توجهوا إلى الحدود الفاصلة بين شنكال وروج آفا ونجوا بأرواحهم، حينها قررت عائلتنا أيضاً التوجه إلى هنالك، وفي اليوم الثاني إي الـ 4 من آب نزلنا من جبالنا متوجهين إلى الحدود لكن ليتنا لم ننزل، مستعدة لتحمل الجوع والعطش والبرد والحر وكل شيء لكن ليتنا بقينا، لأن نزولنا قد غير مسير حياتي بشكل كامل.

عندما نزلنا فجأةً ظهرت أمامنا نقطة تفتيش لداعش، لا أذكر اسم القرية لكنها كانت قريبة من الحدود، كانت سيارتنا تتوجه بسرعة كبيرة، وكانت تلك النقطة قد احتجزت عائلات أخرى قبلنا، عندما علموا بأمر سيارتنا أطلقوا النيران بوجهنا هذه النيران شلت حركة السيارة وحركتنا أيضاً بشكل كامل، كان خوفي ورعبي صائباً. حقا لقد ألقوا القبض علينا، لقد عشت ما كنت أخشاه.”

شنكال. وكالة المرأة الأخبارية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى